فصل: تفسير الآية رقم (82)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي عذابنا‏.‏ أو الأمر به، فالأمر على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر، قيل‏:‏ ونسبة المجىء إليه بالمعنيين مجازية، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله، ونحن في غنى عن ادعاء تكراره، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر أعني ضد النهي بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع، وبجعل التعذيب مسبباً عنه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا‏}‏ فإنه جواب ‏{‏لَّمّاً‏}‏ والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسبباً عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجىء بإرادته، وضمير ‏{‏عاليها عاليها سَافِلَهَا‏}‏ لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات، وهي خمس مدائن‏:‏ ميعة‏.‏ وصعره‏.‏ وعصره‏.‏ ودوما‏.‏ وسدوم‏.‏

وقيل‏:‏ سبع أعظمها سدوم، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام، وكان فيها على ما روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك، وقيل‏:‏ إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها، وقيل‏:‏ إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثر، والله تعالى أعلم‏.‏

ونصب ‏(‏عاليها ووسافلها‏)‏ على أنهما مفعولان للجعل، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل العالي سافلا، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلاً للأمر وتفظيعاً للخطب لأن جعل ‏(‏عاليها‏)‏ الذي هو مقرهم ومسكنهم ‏(‏سافلها‏)‏ أشق من جعل سافلها عاليها وإن كان مستلزماً له، روي أن لوطاً عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إن جبريل عليه السلام اقتلع المدائن بيده، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها، وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الأعجاز والاعراض عما تقتضيه الطباع السليمة؛ ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل‏:‏ اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي، والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضاً وعلى هذا الطرز قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا‏}‏ أي على المدائن أو شذاذ أهلها ‏{‏حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعاً لشأفتهم واستئصالاً لهم‏.‏

روي أن رجلاً منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه، والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏حِجَارَةً مّن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 33‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد معرب سنك كل‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ السجيل كالسجين الشديد من الحجارة، وقيل‏:‏ هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم، وقيل‏:‏ من السجل بتشديد اللام وهو الصك، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به، وقيل‏:‏ أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها، فأبدلت نونه لاماً‏.‏

وقال أبو العالية‏.‏ وابن زيد‏:‏ السجيل اسم لسماء الدنيا‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ أي نضد وضع بعضه على بعض معداً لعذابهم، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية‏.‏ وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل‏:‏ إن المراد به جهنم، وتكلف بعضهم فقال‏:‏ يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناءاً على أنه دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية‏.‏ وابن زيد، وجوز أن يكون ‏{‏مَّنْضُودٍ‏}‏ صفة حجارة على تأويل الحجر‏.‏ وجره للجوار، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏مُّسَوَّمَةً‏}‏ أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريح، وقيل‏:‏ معلمة ببياض وحمرة، وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ والحسن، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء‏.‏

وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها، وكان بعضها كما قيل‏:‏ مثل رؤوس الإبل‏.‏ وبعضها مثل مباركها‏.‏ وبعضها مثل قبضة الرجل ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ أي في خزائنه التي لا يملكها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز وجل، والظرف قيل‏:‏ منصوب بمسومة أو متعلق بمحذوف وقع صفة له، والمروى عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عن ربك، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذاناً بقدرته وشدة عذابه فليفهم‏.‏

‏{‏وَمَا هِىَ‏}‏ أي الحجارة الموصوفة بما ذكر ‏{‏مِنَ الظالمين‏}‏ من كل ظالم ‏{‏بِبَعِيدٍ‏}‏ فانهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة، وروي هذا عن الربيع‏.‏

وأخرج ابن جيرير‏.‏ وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة، وجاء في خبر ذكره الثعلبي، وقال فيه العراقي‏:‏ لم أقف له على إسناد أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال‏:‏ يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، وقيل‏:‏ المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم‏.‏

وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام، و‏{‏الظالمين‏}‏ من يشبههم من الناس، ويمكن أن يقال‏:‏ إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير‏.‏

وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير ‏{‏هِىَ‏}‏ للقرى التي جعل ‏{‏عاليها سَافِلَهَا‏}‏ والمراد من ‏{‏الظالمين‏}‏ ظالمو مكة، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام، وتذكير البعيد يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض ءلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بهم فكأنها بمكان قريب منهم، أو لأنه على زنة المصدر كالزفير‏.‏ والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ‏}‏ أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيراً ما تسمى القبيلة باسم أبيهم كمضر‏.‏ وتميم ولعل هذا أولى، وجوز أن يراد بمدين المدنية التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين ‏{‏أخاهم‏}‏ نسيبهم ‏{‏شُعَيْبًا‏}‏ قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام، والجملة معطوفة على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ أي وأرسلنا إلى مدين شعيباً‏.‏

‏{‏قَلْبٌ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان‏}‏ قيل‏:‏ أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزات يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات، وقد تقدم في الاعراف ‏{‏الكيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ بدل ‏{‏المكيال‏}‏ فتذكر وتأمل ‏{‏إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ‏}‏ أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكراً عليها، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيبلوه بما تأتونه من الشر، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي؛ وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ إن لم تنتهوا عن ذلك ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ‏}‏ وجوز أن يكون تعليلاً للأمر والنهي جميعاً، وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم، وفسره الزمخشري، بالمهلك أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ وأصله من إحاطة العدو، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زماناً مشتملاً على الحوادث الكائنة فيه عذاباً أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبساً بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبساً بنعيمه‏.‏

والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن يصيب كل فرد منهم فرداً من أفراد العذاب، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد، ولا شك في أبلغية هذا كذا في الكشف وتمام الكلام فيه، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية‏:‏ إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطاً بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له، وهذا كقوله

‏:‏ إن المروءة والسماحة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج

فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطاً بالمعذب كضب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب؛ وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون ‏{‏مُحِيطٌ‏}‏ نعتاً لعذاب وجر للجوار، وقيل‏:‏ هو نعت ليوم جار على غير من هو له، والتقدير عذاب يوم محيط عذابه وليس بشيء كما لا يخفى، وأياً مّا كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا، وأخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر‏.‏ والعذاب بغلائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان‏}‏ أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الاتمام فيكون مطلوباً تبعاً، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزماً له تضمناً أو التزاماً لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف، ثم الأمر بالصد مبالغة في الترغيب وإشعاراً بأنه مطلوب أصالة وتبعاً مع الأشعار بتبعية الكف عكسا، وتقييده بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان، ثم إدماج أن المطلوب من الاتمام العدل، ولهذا قد يكون الفضل محرماً كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال‏:‏ إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورة كالنفص‏.‏ فلعل الزائد للاستعمال عن الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل‏.‏

وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معياراً لظلمهم وقانوناً لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال‏:‏ إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزات للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريراً للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى‏.‏

وتعقب بأن حمل هذين اللفظين وقد تكررا في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 6‏]‏ انتهى‏.‏

وفي ورود ما تعقب به أولاً تأمل فتأمل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ يحتمل أن يكون تعميماً بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضاً فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ فإن العثى يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمي‏.‏

وسعي‏.‏ ورضى، وجاء واوياً‏.‏ ويائياً، ويحتمل أن يكون نهياً عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا انلهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل‏:‏ المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، والعثى السرقة وقطع الطريق والغارة، و‏{‏مُفْسِدِينَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تَعْثَوْاْ‏}‏، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام‏.‏ وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل‏:‏ ليس الفائدة الاخراج المذكور فإن المعنى لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلاً مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم ومآل ذلك على ما قيل‏:‏ إلى تعليل النهي كأنه قيل‏:‏ لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏بَقِيَّتُ الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ مما تجمعون بالبخس‏.‏ فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلاً، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق‏.‏

وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل‏:‏ ثوابه في الآخرة، وقال الفراء‏:‏ مراقبته عز وجل، وقال قتادة‏:‏ ذخيرته، وقال الحسن‏:‏ فرائضه سبحانه‏.‏

وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال‏:‏ المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأياً مّا كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ بتخفيف الياء قال ابن عطية‏:‏ وهي لغة، قال أبو حيان‏:‏ إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن تقية الله بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أحفظكم من القبائح‏.‏ أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهداً‏.‏ وأو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ياشعيب أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا‏}‏ من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآملا لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أني يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء‏:‏ ‏{‏أصلاتك‏}‏ التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلاً بعد جيل من الأوثان والتماثيل‏.‏ وإنما جعلوه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفاً بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكوم فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل‏:‏ إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم‏:‏ إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكماً، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ‏}‏ على تقدير بتكليف أن نترك فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على ‏{‏ءانٍ‏}‏ ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل‏:‏ إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلاً، وقيل‏:‏ لا تقدير، والمعنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأني ذلك‏؟‏ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة أصلواتك بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أموالنا *مَا نَشَؤُا‏}‏ أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على ‏{‏مَا‏}‏ وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على ‏{‏أَن نَّتْرُكَ‏}‏ لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل ‏{‏مَا‏}‏ على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل‏:‏ كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثى في الأرض فيكون انلهي عنه نهياً عنه‏.‏

ولا مانع من اندراجه في عموم ‏{‏مَا‏}‏، وقرأ الضحاك بن قيس‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وزيد بن علي بالتاء في الفعلين على الخطاب فعالعطف على مفعول ‏{‏تَأْمُرُكَ‏}‏ أي أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان كما هو الظاهر، وقيل‏:‏ من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل‏:‏ وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال‏:‏ لم يبعث الله تعالى نبياً إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل ‏{‏مَا تَشَاء‏}‏ على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهراً إلا أنه روى ابن المنذر‏.‏ وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها‏.‏

وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما وري عن الحسن ليس نصاً في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على ‏{‏مَا‏}‏ وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن‏.‏ وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول ‏{‏تَأْمُرُكَ‏}‏ والمعنى ظاهر مما تقدم ‏{‏إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد‏}‏ وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة‏.‏ والمبرد‏.‏

وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناءاً على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا‏:‏ كيف تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك؛ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون تعليلاً باقياً على ظاهره بناءاً على أنه عليه السلام كان موصوفاً عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعاً من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضاً، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قوله له‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 62‏]‏ وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةً‏}‏ حجة ظاهرة ‏{‏مّن رَّبّى‏}‏ ومالك أموري ‏{‏وَرَزَقَنِى مِنْهُ‏}‏ من لدنه سبحانه ‏{‏رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان‏.‏ والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال‏:‏ صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشداً لكم حليماً فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة بكم، أنظروا بعين الانصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبياً على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك‏؟‏ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي‏.‏

واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقياً على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته‏؟‏ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال‏:‏ وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون‏.‏ والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقبل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتاً على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه‏؟‏ا وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم‏.‏

وفسر القاضي الرزق الحسن بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وباعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الانعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلاماعتذارا عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي‏.‏

وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة؛ وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم‏.‏ وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك‏.‏

ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالاً حلالاً أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتابدر بأن يقال‏:‏ إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحاً لرد قولهم المتضمن لرميه وحاشاه بالوسوسة‏.‏ والجنون‏.‏ والسفه‏.‏ والغواية إيذاناً بأن ذلك مما لا يستحق جواباً لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم‏:‏ يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبياً من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك من أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، وربما يقال‏:‏ إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال‏:‏ إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغنى عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعاً، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل‏.‏

بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ‏}‏ الخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني لأرأيتم المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي الخ فافهم ولا تغفل ‏{‏وَمَا أُرِيدُ‏}‏ بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف ‏{‏أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ‏}‏ أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال‏:‏ خالفني فلأن إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده‏.‏

قال في البحر‏:‏ والظاهر على ما ذكروه أن ‏{‏أَنْ أُخَالِفَكُمْ‏}‏ في موضع المفعول به لأريد أي وما أريد مخلفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفاً منكم، و‏{‏إلى‏}‏ متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، وقيل‏:‏ في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى الخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من املخالفة، ويكون ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في موضع المفعول به لأريد ويقدر مائلاً إلى كما تقدم، أو يكون ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها في موضع المفعول له، و‏{‏إلى مَا‏}‏ متعلقاً بأريد أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك‏:‏ أي ما أقد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه ‏{‏إِنْ أُرِيدُ‏}‏ أي ما أريد بما أقول لكم ‏{‏إِلاَّ الإصلاح‏}‏ أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة ‏{‏مَا استطعت‏}‏ أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهداً فما مصدرية ظرفية‏.‏

وجوز فيها أن تكون موصولة بدلاً من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو ‏{‏إِلاَّ الإصلاح‏}‏ إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل‏:‏ بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه؛ وجوز أيضاً أن تكون مفعولاً به للمصدر المذكور كقوله‏:‏ ضعيف النكاية أعداءه *** يخال الفرار يراخي الأجل

أي ما أريد إلا أن أصلح ما استذعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضماراً وفوات المبالغة؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعروف في المفعول به، وفيه مع أنه لا يجوز عند الكوفيين‏.‏ ويقل عند البصريين فواتها، وزيادة إضمار مفعول ‏{‏استطعت‏}‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى‏}‏ أي ما كوني موفقاً لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم ‏{‏إِلاَّ بالله‏}‏ أي بتأييده سبحانه ومعونته‏.‏

واختار بعضهم أن يكون المراد وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى ومعونته والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل‏:‏ إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم‏.‏ وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل‏:‏ دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال‏:‏ من زيد، فالاستعمال الفصيح بناءاً على هذا وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ‏.‏

وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقاً لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ في ذلك، أو في جميع أمور لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشرى في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبياً‏.‏

وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني ‏{‏يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ الخ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ‏}‏ الخ و‏{‏إِنْ أُرِيدُ‏}‏ الخ على هذا النسق شأناً، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى في كل ما يأته ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول‏:‏ متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته‏.‏ وثانيها‏:‏ حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره‏.‏ وثالثها‏:‏ حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده؛ وإنما لم يعطف قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أُرِيدُ‏}‏ الخ على ما قبله لكونه مؤكداً ومقرراً له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريداً للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمناً لجواب آخر، وكأن قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِى‏}‏ الخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد‏:‏ إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم، قيل‏:‏ وفيه أيضاً تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصاً به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال‏:‏ إن في قوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ إشارة أيضاً إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديداً بالجزاء يوم القيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ أي لا يكسبنكم ‏{‏شِقَاقِى‏}‏ أي معاداتي، وأصلها أن أحد المتعادين يكون في عدوة وشق‏.‏ والآخر في آخر، وروي هذا عن السدي، وعن الحسن ضراري، وعن بعض فراقي، والكل متقارب، وهو فاعل يجرمنكم والكاف مفعوله الأول، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن يُصِيبَكُمُ‏}‏ مفعوله الثاني، وقد جاء تعدى جرم إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك، ومن الأول قوله‏:‏ ولقد طعنت أبا عيينة طعنة *** ‏(‏جرمت‏)‏‏}‏ فزارة بعدها أن يغضبوا

وإضافة شقاق إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم ‏{‏مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ‏}‏ من الغرق ‏{‏أَوْ قَوْمَ هُودٍ‏}‏ من الريح ‏{‏أَوْ قَوْمَ صالح‏}‏ من الرجفة والصيحة، ونهى الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى، وقرأ ابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ بضم الياء، وحكى أيضاً عن ابن كثير وهو حينئذٍ من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه قال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهور جارية على ما هو الأكثر استعمالاً في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، وقرأ مجاهد والجحدري‏.‏ وابن أبي إسحاق ‏{‏مَثَلُ‏}‏ بالفتح، وروي ذلك عن نافع، وخرجه جمع على أن ‏{‏مَثَلُ‏}‏ فاعل أيضاً إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وقد جوز فيه‏.‏ وكذا في غير مع ما‏.‏ وأن المخففة‏.‏ والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبنى، وعلى هذا جاء قوله‏:‏ لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أو قال

وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح، وفاعل ‏{‏يُصِيبَكُمُ‏}‏ ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف ‏{‏وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ زماناً كما روي عن قتادة‏.‏ أو مكاناً كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذاناً بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوماً في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوىء، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال

‏:‏ فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم *** فما قوم لوط منكم ببعيد

وإفراد ‏{‏بَعِيدٍ‏}‏ وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع، ومؤنثاً لفظاً على ما نص عليه الزمخشري، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال‏:‏ ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق‏.‏ والصهيل‏.‏

وفي «الكشف» عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط‏.‏ ونفر‏.‏ وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء، وقلت‏:‏ قويم‏.‏ ورهيط ونفير، ودخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل‏.‏ والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبة طمعاً في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ‏}‏ مر تفسير مثله ‏{‏إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ‏}‏ عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة ‏{‏وَدُودٌ‏}‏ أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه، والمشهور جعل الودود مجازاً باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان‏.‏

وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل‏:‏ إن المودة بمعنى الميل القلب وهو ممالا يصح وصفه تعالى به، والسلفي يقول‏:‏ المودة فينا الميل المذكور، وفيه سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏وَدُودٌ‏}‏ متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، وقل‏:‏ محبوب المؤمنين، وتفسيره هنا بما تقدم أولى، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع، فقال‏:‏ عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم، وهو مما لا بأس به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ‏}‏ أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلاً من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل‏:‏ قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به‏:‏ لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل‏:‏ وقولهم ‏{‏كَثِيراً‏}‏ للفرار عن المكابرة ولا يصح أن راد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن ‏{‏كَثِيراً‏}‏ نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيراً مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك‏.‏ ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار ‏{‏وَأَنَا لِنُرِيَكَ فِينَا‏}‏ أي فيما بيننا ‏{‏ضَعِيفاً‏}‏ لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع‏.‏

وروي عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ وسفيان الثوري‏.‏ وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريراً وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحاً، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم‏:‏ فينا بصر لغواً لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمة وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام‏:‏ جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمراً عارضاً وذهب‏.‏

والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام، فقد أخرج الواحدي‏.‏ وابن عساكر عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار، فقال‏:‏ لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقاً فهنيئاً لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي»

، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيراً ممن نشاهده من العميان أكثر احترازاً عنها من غيره، وبأن القاضي، والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطىء كغيره كذا قيل، فلينظر ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ‏}‏ أي جماعتك قال الراغب‏:‏ هم ما دون العشرة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ من الثلاثة إلى العشرة، وقيل‏:‏ إلى السبعة، وقيل‏:‏ بل يقال‏:‏ إلى الأربعين، ولا يقع فيما قل كالعصبة‏.‏ والنفر إلا على الرجال، ومثله الراهط‏.‏ وجمعه أرهط‏.‏ وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا مراعاة جانب رهطك ‏{‏لرجمناك‏}‏ أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروى عن ابن زيد، وقيل‏:‏ ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا‏:‏ لقتلناك بأصعب وجه؛ وقال الطبري‏:‏ أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لارْجُمَنَّكَ واهجرنى مَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46‏]‏، وقيل‏:‏ لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم؛ ومعنى ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق ‏{‏بِعَزِيزٍ‏}‏ وجاز لكون المعمول ظرفاً والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقاً بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقدم هذا الضمر الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلاً بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفرداً بالعزة وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، وقال السيد السند‏:‏ إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصاً للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكى بقوله عز شأنه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله‏}‏ أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة‏.‏ وغيره‏:‏ إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقاً لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة‏.‏

واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقاً وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ فكيف يقال‏:‏ باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقاً وإن جعله جواباً لما ‏{‏أَنتَ عَلَيْهِمْ بِعَزِيزٍ‏}‏ هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطى أعز عليكم، ثم قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلاً معنوياً ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا‏:‏ إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاماً فجاز أن يقال‏:‏ ما عزيز أن على أن يكون أنت تأكيداً للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ بعد تقديم ‏{‏أَنتَ‏}‏ وجعله مبتدأ‏.‏ وكذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏ مما لي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب الكشاف‏.‏ وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصاً، وإن كان مفيداً إياه عند من لا يشترط ذلك‏.‏

وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته‏:‏ بأن ما فيه الخبر وصفاً كما يقارب ما فيه الخبر فعلاً في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ كفى به دليلاً أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جواباً لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏

‏{‏لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ من باب الطرد والعكس عناداً منهم فلا بد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى‏.‏

ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال‏:‏ إنه اعتراض قوي؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى‏.‏

وأجيب أضاً بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطى أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطى لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله‏.‏ ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في عزيز للتعظيم وحينئذٍ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطى أعز‏؟‏ الخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جداً من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقاً وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال‏:‏ وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى‏.‏ وثانياً نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظاً من العزة أصلاً ‏{‏واتخذتموه‏}‏ بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره ‏{‏وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً انتهى‏.‏

وأنا أقول‏:‏ قد ذكر الرضى أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقاً كما في زيد أحسن من عمرو أو تقديراً كقول علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوباً إلى نفسه أيضاً، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال‏:‏ هب أنه محبوب عندي أيضاً أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزاً عندهم أيضاً، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور بمن من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءاً على مجىء ذلك بقلة كما قال الجلال السيوطي في «همع الهوامع» نحو العسل أحلى من الخل‏.‏

والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذتموه‏}‏ الخ اعتراضاً وفائدته تأكيدتها ونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفاً على ما قبله على معنى أفضلتم رهطى على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد‏:‏ إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام ‏{‏أَرَهْطِى‏}‏ الخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطى الأذلة، وأياً مّا كان فضمير ‏{‏اتخذتموه‏}‏ عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس‏.‏ والحسن وغيرهما، والظهري منسوب إلى الظهر، وأصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس‏:‏ أمسي بالكسر‏.‏ وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعملوه للمنسي المتروك، وذكروا أنه حتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحة وأن يكون استعارة تمثيلية‏.‏

وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، والظهري العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه‏.‏ والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم‏.‏

ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل‏:‏ الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحاً، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل‏:‏ الظهري بمعنى المعين، والضمر لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عوناً وعدة لدفعي، وقيل‏:‏ لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعماً أنهم كانوا يسمعون الملك عزيزاً على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب ‏{‏وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً‏}‏ على أنه مفعول ثان لاتخذتموه والهاء مفعوله الأول، و‏{‏وَرَائِكُمْ‏}‏ ظرف له أو حال من ‏{‏ظِهْرِيّاً‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك

‏[‏بم وكذا قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال‏:‏ مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي «البحر» يقال‏:‏ المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذٍ زائدة، وفسر ابن زيد المكانة بالحال يقال‏:‏ على مكانتك افلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت‏:‏ اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى ههنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه‏.‏

وقرأ أبو بكر مكاناتكم على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الأفراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم‏:‏ يحتمل أن يكون متعلقاً بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول‏:‏ عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم‏.‏

‏{‏إِنّى عامل‏}‏ على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ استئناف وقع جواب سؤال مقدرنا شيء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا‏}‏ الخ كأن سائلاً منهم سأال فماذا يكون بعد ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشىء ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسئل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك‏.‏

وقال بعض أجلة الفضلاء‏:‏ إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسئل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ‏}‏ قيل‏:‏ موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان، وجملة ‏{‏يَأْتِيهِ عَذَابٌ‏}‏ صلة الموصول، وجملة ‏{‏يُخْزِيهِ‏}‏ صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ ووصفه بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ عطف على ‏{‏مَن يَأْتِيهِ‏}‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ أيضاً موصولة، وجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل‏.‏

واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في سيعلم الصادق‏.‏ والكاذب إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم‏:‏ ‏{‏لرجمناك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ والتصميم على تكذيبه بقولهم‏:‏ ‏{‏أصلواتك تَأْمُرُكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ الخ فكأنه قيل‏:‏ سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضاً‏.‏

وفي الإرشاد أن فيه تعريضاً بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري‏:‏ إنه كان القياس، ومن هو صادر بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم‏.‏ وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذٍ ينصرف ‏{‏مَن يَأْتِيهِ‏}‏ الخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذباً قال‏:‏ ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلاً لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذباً تجهيلاً لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذباً لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير‏:‏ الظاهر أن الكلامين جميعاً لهم فمن يأتيه الخ متضمن ذكر جزائهم، ‏{‏وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ‏}‏ متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده‏:‏ ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناءاً بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 39‏]‏ حيث اكتفى بذلك عن أن يقول‏:‏ ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 135‏]‏ حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعن إلا ذلك نحو ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏ ولأن اللام في ‏{‏لَهُ‏}‏ يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي ‏{‏وارتقبوا‏}‏ أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه ‏{‏إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ‏}‏ أي منتظر ذلك، وقيل‏:‏ المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، و‏{‏رَقِيبٌ‏}‏ إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع‏.‏ أو راقب كالصريم بمعنى الصارم‏.‏ أو مراقب كعشير بمعنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله‏:‏ ‏{‏ارتقبوا‏}‏‏:‏ الأول وإن كان مجىء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة ‏{‏طائركم مَّعَكُمْ‏}‏ إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 93‏]‏ الخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك ‏{‏نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا‏}‏ وهو الإيمان الذي وفقناهم له‏.‏ أو بمرحمة كائنة منالهم وإنما جىء بالفاء في قصتي ثمود‏.‏ ولوط حيث قيل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 82‏]‏ وبالواو ههنا وفي قصة عاد حيث قيل‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66‏]‏ الخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ وهو يجري مجرى السبب المقتضى لدخول الفاء في معلوله، وأما ههنا‏.‏ وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجىء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل‏.‏

وتعقب بأن في الكلام ههنا ذكر الوعد أيضاً، وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ إلى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَقِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 93‏]‏ غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي الفرق، وقيل‏:‏ إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح‏.‏ ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام‏.‏ وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ والصبح‏:‏ وهي سويعات يسيرة‏.‏ ولا كذلك عذاب قومي شعيب‏.‏ وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجىء العذاب بناءاً على الشائع في استعمال ‏{‏سَوْفَ‏}‏ على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح‏.‏ ولوط عليهما السلام‏.‏ والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجىء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال‏:‏ من أن الإتيان بالفاء لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط‏.‏ وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح‏.‏ ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر ‏{‏وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ عدل عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل ‏{‏الصيحة‏}‏ قيل‏:‏ صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعاً من العذاب، والعرب تقول‏:‏ صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس

‏:‏ فدع عنك نهباً ‏(‏صيح‏)‏‏}‏ في حجراته *** ولكن حديث ما حديث الرواحل

والمعول عليه الأول، وقد سبق في الأعراف ‏{‏الرجفة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78، 91‏]‏ أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل‏:‏ غير ذلك فتذكر ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين‏}‏ أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعداً، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 93‏]‏ الخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمراً مسلم الوقوع غنياً عن الاخبار به حيث جعل شرطاً، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جواباً له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، وأصبح إما ناقصة‏.‏ أو تامة أي صاروا جاثمين‏.‏ أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ‏}‏ أي لم يقيموا ‏{‏فِيهَا‏}‏ متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر‏.‏ أو حال بعد حال‏.‏

‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ‏}‏ العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم‏.‏ وصيحة مدين كانت من فوقهم‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ وأبو حيوة ‏(‏بعدت‏)‏‏}‏ بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك، ومنه قوله‏:‏

يقولون‏:‏ ‏(‏لا تبعد‏)‏‏}‏ وهم يدفونني *** وأين مكان البعد إلا مكانياً

وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل‏:‏ أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري‏:‏ من العرب من يسوي بين الهلاك وبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما ككرم‏.‏ وفرح بعداً وبعداً بفتحتين، وقال المهدوي‏:‏ إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر‏.‏ وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضاً هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إماحقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر‏:‏

من كان بينك في التراب وبينه *** شهران فهو في غاية ‏(‏البعد‏)‏‏}‏

وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل‏:‏ ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حساب رضي الله عنه تعالى عنه‏:‏

إن كنت كاذبة الذي حدثتني *** فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم *** ونجا برأس طمرّة ولجام

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 56‏]‏ فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحداً على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا إعوجاج فيه، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه‏:‏ إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه، نعم إن الناس على قسمين‏:‏ أهل الكشف‏.‏

وأهل الحجاب، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك، والآخرون يمشرون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطاً مستقيماً وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطاً مستقيماً، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي الرحمة السابقة على الغضب، وادعى أن فيها بشارة للخلق أي بشارة‏.‏

وقال القيصري في تفسيرها‏:‏ أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي، فالمعنى مامن حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم؛ وأشار بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَخَذَ‏}‏ إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها، وإنما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ بإضافة الرب إلى نفسه، وتنكير الصراط تنبيهاً على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الآلهية، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏ بلام العهد‏.‏ أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها، فلا يقال‏:‏ إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما فائدة الدعوة‏؟‏ لأنا نقول‏:‏ الدعوة إلى الهادي من المضل‏.‏ وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85‏]‏ انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالاً التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم‏.‏

وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلاً لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري‏:‏ وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية، وبعبارة أخرى‏:‏ إن حقيقة الممكن أمر معدوم‏.‏

وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلى الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التلكيف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة‏.‏

وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيوماً للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ‏{‏مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 39‏]‏ وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منها عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل‏:‏

لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا *** إخالك أني ذاكر لك شاكر

فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا *** بأنك مذكور وذكر وذاكر

لكن ينبغي أن لا يبادر سمعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى ههنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا‏:‏ إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال؛ ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال‏:‏

لعلك غضبان ولست بعالم *** سلام على الدارين إن كنت راضياً

وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام‏:‏ ‏{‏لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ قيل‏:‏ يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية‏.‏ ومنها روحانية وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيراً لأنها قد تؤثر في أكثر العالم‏.‏ أوكله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصاراً ينصرونه على أعداء الله تعالى، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء، وقد علمت ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏

«يرحم الله تعالى أخي لوطاً» الخبرة‏.‏

وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطاً كان مع الله تعالى من أنه سبحانه ‏(‏ركن شديد‏)‏‏}‏ والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصى الله تعالى، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله‏:‏

لا تنه عن خُلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد‏.‏